الحمدُ للهِ الذي جعلَ للعُلَماءِ عظيمَ المقدارِ، وألبسَهم حُلَلَ المهابَةِ والوَقارِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له العزيزُ الغفَّارُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه المصطفَى المختارُ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه الأبرارِ، وعلَى تابعيهمْ بإحسانٍ ما تعاقَبَ الليلُ والنهارُ.
وبعد فإِنَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ ماضُونَ بِرِكَاِب العَالِمِينَ, وعلى طَرِيقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ مُتَبِعِينَ, وللصَّحِابَةِ ومن تَابَعَهُمْ تَابِعِينَ , بَاذِلينَ النُّصْحِ للمُتَعَلِّمِينَ, والرُّشْدِ للطَّائِعِينَ والعَابِدِينَ, ولِصَحِيحِ عِلمِ الكِتَابِ و السُّنَّةِ مبِيْنِينَ, وَعَلَى مَنْهَجِ أَهْلِ الحَدِيثِ والمُحَدِّثِينَ , وفِي هَذَا وذَاكَ مِنَ اللهِ الأَجْرَ رَاجِينَ
وحُجْتُنَا فِي ذَلِكَ الكِتَابُ المُبِين, وسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَمَ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ, وبِفَهْمِ أصْحَابِهِ الغُرِ المَيامِينَ, ومَنْ تَلَاهُمْ مِن الأَئِمِةِ المُهْتَدِينَ.
لقد تميَّزتِ الأُمَّةُ الإسلاميَّةُ عَنْ غيرها مِنَ الأممِ، بأنَّها أُمَّةُ المعرفَةِ والعِلْمِ، وأُمَّةُ القرطاسِ والقلمِ.
قالَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ - رضي الله عنه -:"العلمُ خيرٌ مِنَ المالِ، العلمُ يحرسُكَ وأنتَ تحرسُ المالَ، والعلمُ حاكِمٌ والمالُ محكومٌ عليه، والمالُ تَنْقُصُه النفقةُ والعلمُ يزكُو بالإنفاقِ، ماتَ خُزّانُ المالِ وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقونَ ما بَقِيَ الدهرُ، أعيانُهم مفقودةٌ وآثارُهم في القلوبِ موجودةٌ"
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ : إِنَّ النَّاسَ لَيَحْتَاجُونَ إِلَى هَذَا الْعِلْمِ فِى دِينِهِمْ كَمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِى دُنْيَاهُمْ.
فالعلمُ الشرعيُّ تعليمُه خشيةٌ، وطلبُه عِبادةٌ، ومُذاكَرتُه تسبيحٌ، وهوَ الأنيسُ في الوحشةِ، والصاحبُ في الغُرْبةِ، بالعلمِ والعملِ يبلغُ العبدُ العِزَّ والفخارَ، وينالُ الدرجاتِ العُلا في دارِ القرارِ، به يُطاعُ الربُّ ويُعبَدُ، ويُوحَّدُ ويُتَّقَى ويُمَجَّدُ.
ما الفَضْلُ إلاَّ لأهلِ العِلْمِ إنَّهمُ علَى الهُدَى لِمَنِ استهدَى أدِلاّءُ
وقَدْرُ كُلِّ امرئٍ ما كانَ يُحْسِنُهُ والجاهلونَ لأهلِ العِلْمِ أعْداءُ
فَفُزْ بعِلْمٍ ولا تَطلُبْ بهِ بَدَلاً … فالنّاسُ مَوْتَى وأهلُ العِلْمِ أحْياءُ
والعلم لا يُؤتِي ثمرتَهُ، ولا تَحصلُ بركتُه، إلاّ بأمورٍ مِنْها: الإخلاصُ في الطلَبِ، وابتغاءُ رِضا الربِّ، وتتويجُه بالخلقِ الحَسَنِ والأدَبِ، والاقتداءُ بمعلِّمٍ مخلصٍ مُهذَّبٍ، فيتعلمُ مِنْه أدبَ الجلوسِ وأدبَ الاستماعِ، وأدبَ السؤالِ وأدبَ الإنصاتِ، وأدبَ الاعتذارِ وأدبَ الاستدراكِ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنَ عُيَيْنَةَ: يُرَادُ لِلْعِلْمِ الْحِفْظُ وَالْعَمَلُ وَالاِسْتِمَاعُ وَالإِنْصَاتُ وَالنَّشْرُ.
يقولُ الإمامُ الشافعيُّ: "كنتُ أصفَحُ الورقةَ بينَ يَدَيْ شيخِي مالكٍ صَفْحاً رقيقاً هَيْبةً لِئلا يسمعَ وَقْعَها".
ويقولُ الربيعُ:"واللهِ ما اجترأْتُ أنْ أشربَ الماءَ والشافعيُّ ينظرُ إليَّ هَيْبةً له".
بِتسعٍ يُنالُ العلمُ : قوتٌ وصحَّةٌ وحِرْصٌ وفهمٌ ثاقبٌ في التعلُّمِ
ودرسٌ وحفظٌ للعلومِ وهِمَّةٌ وشَرْخُ شبابٍ واجتهادُ مُعلِّمِ
والعلم أشرف من أن يبذل لأعراض الدنيا الزائفة ولحطامها الزائلة.
قال عَبْدُ اللَّهِ بن مسعود: مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لأَرْبَعٍ دَخَلَ النَّارَ - أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ - لِيُبَاهِىَ بِهِ الْعُلَمَاءَ ، أَوْ لِيُمَارِىَ بِهِ السُّفَهَاءَ ، أَوْ لِيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَوْ لِيَأْخُذَ بِهِ مِنَ الأُمَرَاءِ.
اللَّهُمَّ علمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي عُلومِنَا وَأَعْمَالِنَا وَأَعْمَارِنَا وَأصْلِحْ نَيَّاتِنَا وَذُرَّيَاتِنَا ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين .