الحمد لله المبتدىء بحمد نفسه قبل أن يحمده حامد ، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الرب الصمد الواحد ، الحي القيوم الذي لا يموت ، ذو الجلال والإكرام ، والمواهب العظام ، والمتكلم بالقرآن ، والخالق للإنسان ، والمنعم عيه بالإيمان ، والمرسل رسوله بالبيان ، محمداً صلى الله عليه وسلم ما اختلف للإنسان ، وتعاقب الجديدان ، أرسله بكتابه المبين ، الفارق بين الشك واليقين ، الذي أعجزت الفصحاء معارضته ، وأعيب الألباء مناقضته ، وأخرست البلغاء مشاكلته ، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً . جعل أمثاله عبراً لمن تدبرها ، وأوامره هدى لمن استبصرها ، وشرح فيه واجبات الأحكام ، وفرق فيه بين الجلال والحرام ، وكرر فيه المواعظ والقصص للإفهام ، وضرب فيه الأمثال ، وقص فيه غيب الأخبار ، فقال تعالى : "ما فرطنا في الكتاب من شيء" . جاطب به أولياء ففهموا ، وبين لهم فيه مراده فعلموا . فقرأه القرآن جملة سر الله المكنون ، وحفظه علمه المخزون ، وخلفاء أنبيائه وأمناء ، وهم أهله وخاصته وخيرته وأصفياؤه ، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لله أهلين منا ، قالوا : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : هم أهل القرآن أهل الله وخاصته" أخرجه ابن ماجة في سننه ، وأبو بكر البزار في مسنده . فما أحق من علم كتاب الله ان يزدجر بنواهيه ، ويتذكر ما شرح له فيه ، ويخشى الله ويتقيه ، ويراقبه ويستحييه . فإنه قد حمل أعباء الرسل ، وصار شهيداً في القيامة على من خالف من أهل الملل ، قال الله تعالى :"وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" . ألا وإن الحجة على من علمه فأغفله ، اوكد منها على من قصر عنه وجهله . ومن أوتي علم القرآن فلم ينتقع ، وزجرته نواهيه فلم يرتدع ، وارتكب من المأثم قبيحاً ، ومن الجرائم فضوحاً ، كان القرآن حجة عليه ، وخصماً لديه ، " قال رسول اله صلى الله عليه وسلم : القرآن حجة لك أو عليك" خرجه مسلم . فالواجب على من خصه الله بحفظ كتابه ان يتلوه حق تلاوته ، ويتدبر حقائق عبارته ، ويتفهم عجائبه ، ويتبين غرائبه ، قال الله تعالى : "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته" . وقال الله تعالى : "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" . جعلنا الله من يرعاه حق رعايته ، ويتدبر حق تدبره ، ويقوم بقسطه ، ويوفي بشرطه ، ولا يلتمس الهدى في غيره ، وهدانا لأعلامه الظاهرة ، وأحكامه القاطعة الباهرة ، وجمع لنا به خير الدنيا والآخرة ، فإنه أهل التقوى أهل المغفرة . ثم جعل الى رسوله بيان ما كان منه مجملاً ، وتفسير ما كان منه مشكلاً ، وتحقيق ما كان منه متحملاً ، ليكون له مع تبليغ الرسلة ظهور الاختصاص به ، ومنزلة التفويض اليه ، قال الله تعالى "وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم" . ثم جعل الى العلماء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم استنباط ما نبه على معانيه ، وأشار الى اصوله ليتوصلوا بالاجتهاد فيه الى علم المراد ، فيمتازوا بذلك عن غيرهم ، ويختصموا بثواب اجتهادهم ، قال الله تعالى : "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" . فصار الكتاب أصلاً والسنة به بياناً ، واستنباط العلماء له إيضاحاً وتبياناً . فالحمد لله الذي جعل صدورنا اوعية كتابه ، وآذاننا موارد سنن نبيه ، وهممنا مصروفة الى تعلمهما والبحث عن معانيهما وغرائبهما ، طالبين بذلك رضا رب العالمين ، ومتدرجين به الى علم الملة والدين .
فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علوم الشرع ، الذي استقل بالسنة والفرض ، ونزل به أمين اسماء الى أمين الأرض ، رأيت ان اشتغل به مدى عمري ، واستفرغ فيه منتي ، بأن أكتب فيه تعليقاً وجيزاً ، يتضمن نكتاً من التفسير واللغات ، والإعراب والقراءات ، والرد على أهل الزيغ والضلالات ، وأحاديث كثيرةً شاهدةً لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات ، جامعاً بين معانيهما ، ومبينا ما اشكل منهما ، بأقاويل السلف ، ومن تبعهم من الخلف . وعلمته تذكرةً لنفسي ، وذخيرة ليوم رمسي ، وعملاً صالحاً بعد موتى . قال الله تعالى : "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" . وقال تعالى : "علمت نفس ما قدمت وأخرت" . و" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" .
وشرطي في هذا الكتاب : إضافة الأقوال الى قائليها ، والأحاديث الى مصنفيها ، فإن يقال : من بركة العلم أن يضاف القول الى قائله . وكثيراً ما يجيء الحديث في كتب الفقه والتفسير مبهماً ، لا يعرف من أخرجه إلا من اطلع على كتب الحديث ، فيبقى من لا خبرة له بذلك حائراً ، لا يعرف الصحيح من السقيم ، ومعرفة ذلك علم جسيم ، فلا يقبل منه الاحتجاج به ، ولا الاستدلال حتى يضيفه الى من خرجه من الإئمة الأعلام ، والثقات المشاهير من علماء الإسلام . ونحن نشير الى جمل من ذلك في هذا الكتاب ، والله الموفق للصواب . وأضرب عن كثير من قصص من ذلك تبيين آي الأحكام ، بمسائل تسفر عن معناها ، وترشد الطالب الى مقتضاها ، فضمنت كل آية تتضمن حكماً أو حكمين فما زاد ، مسائل نبين فيها ما تحتوي عليه من أسباب النزول والتفسير الغريب والحكم ، فإن لم تتضمن حكماً ذكرت ما فيها من التفسير والتأويل ، هكذا إلى آخر الكتاب .
وسميته بـ (الجامع لأحكام القرآن ، والمبين لما تضمنه ممن السنة وآي الفرقان ) ، جعله الله خالصاً لوجهه ، وأن ينفعني به ووالدي ومن أراده بمنه ، إنه سميع الدعاء ، قريب مجيب ، آمين .
الأولى : ويسن لقارىء القرآن أن يقول بعد الفراغ من الفاتحة بعد سكتة على نون ولا الضالين : آمين ، ليتميز ما هو قرآن مما ليس بقرآن .
الثانية : ثبت في الأمهات من حديث أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : فترتبت المغفرة للذنب على قدمات اربع تضمنها هذا الحديث ، الأولى : تأمين الإمام ، الثانية : تأمين من خلفه ، الثالثة : تأمين الملائكة ، الرابعة موافقة التأمين ، فقيل في الإجابة ، وقيل في الزمن ، وقيل في الصفة من إخلاص الدعاء ، لقوله عليه السلام :
"ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه" .
الثالثة : روى أبو داود عن ابي مصبح المقرائي قال : كنا نجلس الى ابي زهير النميري وكان من الصحابة ، فيحدث أحسن الحديث ، فإذا دعا الرجل منا بدعاء قال : اختمه بآمين ، فإن آمين مثل الطابع على الصحيفة . قال أبو زهير : ألا أخبركم عن ذلك : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فأتينا على رجل قد ألح في المسألة ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يسمع منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أوجب إن ختم ، فقال له رجل من القوم : بأي شيء يختم ؟ قال بآمين فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب فانصرف الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتى الرجل فقال له : اختم يا فلان وابشر " . قال ابن عبد البر : أبو زهير النميري اسمه يحيى بن نفير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"لا تقتلوا الجراد فإنه جند الله الأعظم" . وقال وهب بن منبه . آمين أربعة أحرف يخلق الله من كل حرف ملكاً يقول : اللهم اغفر لكل من قال آمين . وفي الخبر :
"لقنني جبريل آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب وقال : إنه كالخاتم على الكتاب" وفي حديث آخر :
"آمين خاتم رب العالمين" . قال الهروي قال ابو بكر : معناه أنه طابع الله على عباده ، لأنه يدفع به عنهم الآفات والبلايا ، فكان خاتم الكتاب الذي يصونه ويمنع من إفساده وإظهار ما فيه . وفي حديث آخر :
"آمين درجة في الجنة" . قال ابو بكر : معناه أنه حرف يكتسب به قائله درجة في الجنة .
الرابعة : معنى آمين عند أكثر اهل العلم : اللهم استجب لنا ، وضع موضع الدعاء . وقال قوم هو اسم من أسماء الله ، روي عن جعفر بن محمد و مجاهد وهلال بن يساف ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصح ، قال ابن العربي . وقيل معنى آمين : كذل فليكن ، قاله الجوهري . وروى الكلبي عن ابي صالح " عن ابن عباس قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما معنى آمين ؟ قال : رب افعل " . وقال مقاتل : هو قوة للدعاء ، واستنزال للبركة. وقال الترمذي معناه لا تخيب رجاءنا .
الخامسة : وفي آمين لغتان : المد على وزن فاعيل كياسين . والقصر على وزن يمين . قال الشاعر في المد :
يا رب لا تسلبني حبها أبدا ويرحم الله عبدا قال آمينا
وقال آخر :
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين آمينا
وقال آخر في القصر :
تباعد مني فطحل إذ سألته أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وتشديد الميم خطأ ، قال الجوهري . وقد روي عن الحسن وجعفر الصادق التشديد ، وهو قول الحسين بن الفضل ، من أم إذا قصد ، أي نحن قاصدون نحوك ، ومنه قوله "ولا آمين البيت الحرام" . حكاه ابو نصر عبد الرحيم بن عبد الكريم القشيري . قال الجوهري :وهو مبني على الفتح مثل اين وكيف ، لاجتماع الساكنين . وتقول منه : أمن فلان تأميناً .
السادسة :اختلف العلماء هل يقولها الإمام وهل يجهر بها ، فذهب الشافعي و مالك في رواية المدنيين الى ذلك . وقال الكوفيون وبعض المدنيين : لا تجهر بها . وهو قول الطبري ، وبه قال ابن حبيب من علمائنا . وقال ابن بكير : هو مخير . وروى ابن القاسم عن مالك ان الإمام لا يقول آمين وإنما يقول ذلك من خلفه ، وهو قول ابن القاسم والمصريين من أصحاب مالك . وحجتهم حديث ابي موسى الأشعري :
"ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سنتنا وعلمنا صلاتنا فقال : إذا صليتم فأقيموا صفوفكم ثم ليؤمكم أحدكم فإذا كبر فكبروا وإذا قال " غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فقولوا آمين يجبكم الله" وذكر الحديث ، أخرجه مسلم .
ومثله حديث سمي عن ابي هريرة :
وأخرجه مالك . والصحيح الأول لحديث وائل بن حجر قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ "ولا الضالين" قال : آمين يرفع بها صوته" ، أخرجه ابو داود و الدار قطني ، وزاد قال ابو بكر : هذه سنة تفرد بها أهل الكوفة ، هذا صحيح والذي بعده . وترجم البخاري باب جهر الإمام بالتأمين .
وقال عطاء : آمين دعاء ، أمن ابن الزبير ومن وراءه حتى أن للمسجد للجة . قال الترمذي : وبه يقول غير واحد من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ، يرون أن يرفع الرجل صوته بالتأمين لا يخفيها . وبه يقول الشافعي و أحمد و إسحاق . وفي الموطأ والصحيحين قال ابن شهاب :
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين . وفي سنن ابن ماجة عن ابي هريرة :
قال : ترك الناس آمين وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اذا قال : "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد . وأما حديث أبي موسى وسمي فمعناهما التعريف بالموضع الذي يقال فيه آمين ، وهو إذا قال الإمام "ولا الضالين" ليكون قولهما معاً ، ولا يتقدموه بقول آمين ، لما ذكرناه ، والله أعلم . ولقوله عليه السلام :
"إذا أمن الإمام فأمنوا" . وقال ابن نافع في كتاب ابن الحارث : لا يقولها المأموم إلا أن يسمع الإمام يقول : "ولا الضالين" . وإذا كان ببعد لا يسمعه فلا يقل . وقال ابن عبدوس يتحرى قدر القراءة ويقول :آمين .
السابعة : قال أصحاب ابي حنيفة : الإخفاء بآمين أولى من الجهر بها لأنه دعاء ، وقد قال الله تعالى : "ادعوا ربكم تضرعا وخفية" . قالوا : والدليل عليه ما روي في تأويل قوله تعالى : "قد أجيبت دعوتكما" . قال : كان موسى يدعو وهارون يؤمن ، فسماهما الله داعيين .
الجواب إن إخفاء الدعاء إنما كان أفضل لما يدخله من الرياء . وأما ما يتعلق بصلاة الجماعة فشهودها إشهار شعار ظاهر ، وإظهار حق يندب العباد الى إظهاره ، وقد ندب الإمام الى إشهار قراءة الفاتحة المشتملة على الدعاء والتأمين في آخرها ، فإذا كان الدعاء مما يسن الجهر فيه فالتأمين على الدعاء تابع له وجار مجراه ، وهذا بين .
الثامنة : كلمة آمين لم تكن قبلنا إلا لموسى وهارون عليهما السلام . ذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال حدثنا ابي قال حدثنا زربي مؤذن مسجد هشام بن حسان قال حدثنا أنس بن مالك قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أعطى أمتي ثلاثاً لم تعط أحداً قبلهم السلام وهو تحية أهل الجنة وصفوف الملائكة وآمين إلا ما كان من موسى وهارون" قال أبو عبد الله : معناه أن موسى دعا على فرعون ، وأمن هارون ، فقال الله تبارك اسمه عندما ذكر دعاء موسى في تنزيله "قد أجيبت دعوتكما" ولم يذكر مقالة هارون ، وقال موسى ربنا ، فكان من هارون التأمين ، فسماه داعياً في تنزيله ، إذ صير ذلك منه دعوة . وقد قيل : إن آمين خاص لهذه الأمة ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " أخرجه ابن ماجة من حديث حماد بن سلمة عن سهيل بن ابي صالح عن ابيه عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال ... ، الحديث. وأخرج أيضاً من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين فأكثروا من قول آمين" . قال علماؤنا رحمة الله عليهم : إنما حسدنا أهل الكتاب لأن أولها حمد لله وثناء عليه ثم خضوع له واستكانة ،ثم دعاء لنا بالهداية الى الصراط المستقيم ، ثم الدعاء عليهم مع قولنا آمين